وفاء عبد الرزاق
ليلة ٌ تساقطت نجومُها
بعد قليل سأترك خشبتي الميّتة باحثا ً عن جهات بعيدة عن حجر ، قررتُ أن أترك قدميّ تمتحنان الدروب وتحتسيان الرمل ،عبر الجسور والطرقات المعفّرة والتي تتوجّس قارها .
كان النسيم باردا ً في غيبوبة الصحو ، وكانت الأعشاب طرية وكل شيىء يبعث بسمة ً وانتشاء ً . ويُفترض إني أشعر بطمأ نينة وأنا أتسلل من ثلجي . كانت الشوارع مكتظة بمخلوقات غاضبة مُنذرة بالشؤم . أما الأسواق والمتنزهات ، فكان الرجل يبدو فيها مشطورا ً لنصفين . مررتُ فوق جسر يشطر المدينة ويربطها بريفها أو بنصفها الآخر
متمنياً الاَ أتوحّش مثلهم ، رأيت رجلا ً واقفا ً في نهاية الجسر وبيده كأسا ً من الدم يستقيها على مهل وبتلذذ والقطرات تتساقط من كأسه رؤوسا ً فارغة أو جماجم
جوَف .
امرأة عجوز متسوّلة تتكىء على عكازها ، منثورة الشَعر رثة الثياب ، بدت اسنانها الطويلة الصفر مثل كوخ خرب أو كغابة تعتصر العمر بحرائقها المدمّرة .
وددتُ لو أعود لذاكرة الصمت وخشبتي العزلاء ، لكن الحلم الشاسع في عيني عاود تجلياته ، فتساقطت النجوم شهيّة على قدميّ تستحم بحرية قربي وتتجوّل كغانية سكرى .
بينما أنا كذلك مرقت امرأة مغسولة بالرعب يشق الهذيان قامتها المنتصبة ،ممتلئة ْ بعض الشيىء وشاحبية، ورفيق غياب بشري يحيطها بالجنون.
فجأة ،امتلأ الجسر بأفاع ٍ رقط ، وعلت أصوات هرج ٍ ومرج ، مرَّ رجال ممزقون بالنبال ما عدا شابا ً في التاسعة عشر ناداني وسألني :
-أتشتهي شيئا ً ؟
-بلى.. أشتهي .. وأرغب ..
غادرني الرجل مختوما بغياب روحه وتركني محموما ً بالفراغ الذي ناولني نصفه وترك النصف الآخر يبتلع الطريق .
في يده قطعة خبز بدت كفاكهة لذيذة في نبل الجوع. طفلٌ جميل المحيّا ، له عينان واسعتان وأنف حغير حدّق بي بنظرة ودود وغاب دون أن يتفوّه بكلمة واحدة .
تقدمت نحوي طفلة تتقلّد حلية من حجر رخيص ، ناولتني قرصا ً من الخبز مربوطا ً بقفل ، حين شعرتُ بحركة جوع في أمعائي خامرني فضول أن أتفحص الرغيف.
-لمَ القفل ياصغيرتي ؟
-هذا كي تتحسس دفئه ولا يتسرب السم إلى جسدك كله .
-لكنه غير ساخن ؟
-لأنه غير ساخن سيصبح سُما ً .
تأبطت أنوثتها وتركتني مجنحا ً بالأسئلة . رميتُ القفل في النهر واتكأتُ على سياج الجسر متلذذا ً بأول قضمة بعد أن شعرتُ بحرقة اللعاب في فمي .
قلتُ في ذاتي :
-ما أجمل أن تبادل المعدة جوعها باللعاب وطعم الخبز!
سرت أول لقمة بجلال ٍ طاغ ٍ عبر فمي ، متعرجة لينة وهي تعبر بلعومي حتى كدتُ أشعر بها كالعسل .. ثم استرجعتُ ذاكرة صلصال ٍ كوّ نني .
وعندما بلعتُ اللقمة والتهمتُ الأخرى التفتت إليّ بعد أن أخذ السير بها مأخذا ، ثم عقدت حاجبيها وقالت :
-ليلعنك الله .
-وبللت أهدابهتا بثدي أعماقها، في اللحظة ذاتها شاهدت ُامرأة تتلفت في الجهات كلها خجلة ً من بكائها وعثرات الطريق ، وكمن يتعثر بسلاسل متشابكة ، مسكت الطفلة من يدها واحتضنتها مثل وعاء ساخن مرّ بقطعة ثلج .
-ألم أقل لك ِ لاتغيبي عن ناظري ؟ .. كدتُ أفقدك .
أرخت الطفلة يدها بيد والدتها المكسوّة بالغبار واستدارت لي بشهقة الوداع بينما رعشت الطفولة متراقصة اليدين .
باي .. باي .. باي .
أشرتُ إليها بحركتها نفسها وانشغلتُ بكلمتها ( باي ) حتى بدت الطفلة كظل . شعرتُ بتمزق ٍ في أحشائي، خاطبتُ المارة طالباً ذراعا ً مرحّبة ً بي ، عذرتهم حين تحلّوا بالصمت إذ كيف لمقتول ٍ أن يملك شكيمة ً تنقذ مسموما ً برغيفه ، تحاملتُ على وجعي وقررت العودة لخشبتي . طغى حضور آخر حين تفقدتُ تكويني ، تراء ت لي صورة الطفلة حين وضعت يدها في يدي ، شعرتُ بشيىء يشبه المعدن في باطن كفي إذ كان له شكل مفتاح ، تحسسته ، لهوتُ به بينما طفلة جميلة تلهو بتمثال أسوَد على خشبة قديمة، فتمنيتُ لو تبادلني الخارطة .
كان هذا آخر مانطق به التمثال وهذه الأمنية سيّدي شهريار ،كلمة تترفع على اللغة ، قوية بنفسها ، سيذكرها كل تمثال بذكر جميل ويحلم بمبادلة الخرائط .
-ولكنه مجرد تمثال شهرزادي الجميلة ، وهل تحلم التماثيل ؟
-سيدي ! أرح قلبك ودع لي أمل التلذذ بصورة جديدة تلهو بذاكرة طفلة علّها تسعفني ليلة الغد وتتركني أتحسس رقبتي ، ولربما سيصبح هذا التمثال قدوة ً لكل التماثيل .